النظريات والمعايير التي تميز بين الأعمال التجارية والأعمال المدنية
إن التمييز بين الأعمال التجارية والأعمال المدنية ليس بالأمر الجديد؛ بل هو من الأسس التي تبنتها العديد من الدول والتنظيمات منذ القدم، وقد نص القرءان الكريم في أطول آية منه على هذه التفرقة؛ قال تعالى:
﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِذا تَدايَنتُم بِدَينٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكتُبوهُ وَليَكتُب بَينَكُم كاتِبٌ بِالعَدلِ وَلا يَأبَ كاتِبٌ أَن يَكتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَليَكتُب وَليُملِلِ الَّذي عَلَيهِ الحَقُّ وَليَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبخَس مِنهُ شَيئًا فَإِن كانَ الَّذي عَلَيهِ الحَقُّ سَفيهًا أَو ضَعيفًا أَو لا يَستَطيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَليُملِل وَلِيُّهُ بِالعَدلِ وَاستَشهِدوا شَهيدَينِ مِن رِجالِكُم فَإِن لَم يَكونا رَجُلَينِ فَرَجُلٌ وَامرَأَتانِ مِمَّن تَرضَونَ مِنَ الشُّهَداءِ أَن تَضِلَّ إِحداهُما فَتُذَكِّرَ إِحداهُمَا الأُخرى وَلا يَأبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعوا وَلا تَسأَموا أَن تَكتُبوهُ صَغيرًا أَو كَبيرًا إِلى أَجَلِهِ ذلِكُم أَقسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدنى أَلّا تَرتابوا إِلّا أَن تَكونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُديرونَها بَينَكُم فَلَيسَ عَلَيكُم جُناحٌ أَلّا تَكتُبوها وَأَشهِدوا إِذا تَبايَعتُم وَلا يُضارَّ كاتِبٌ وَلا شَهيدٌ وَإِن تَفعَلوا فَإِنَّهُ فُسوقٌ بِكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ﴾
أولا المعايير الاقتصادية:
تعتمد المعايير الاقتصادية على العديد من النظريات، ومن أهم وأشهر هذه النظريات:
1- نظرية المضاربة:
تعتمد هذه النظرية في تحديدها للأعمال التجارية على فكرة (المضاربة) والسعي إلى تحقيق الربح المادي، فالمضاربة من أهم سمات الأعمال التجارية، والتي تسمح بتمييزها عن الأعمال المدنية، ووفقا لهذه النظرية فالمضاربة هو كل عمل من شأنه تحقيق ربح ومنفعة مادية.
ويؤخذ على هذه النظرية ملازمتها لأكثر التصرفات الإنسانية، وهي غير مقتصرة على الأعمال التجارية وحسب؛ بل تشمل كل عمل يسعى فيه صاحبه لتحقيق الربح، كأصحاب المهن الحرة من الأطباء والمحامين والمزارعين وغيرهم؛ كل هؤلاء يسعون إلى الربح المادي؛ وبناء على ذلك فإن الأخذ بهذه النظرية سيؤدي إلى إضفاء الصفة التجارية على أعمال مدنية صرفة. كما يؤخذ على نظرية المضاربة أن القانون قد اعتبر بعض الأعمال التي لا يتوفر فيها قصد المضاربة تجارية كسحب وتظهير الكمبيالات والشيكات، ولو لم يكن الهدف منها جلب ربح، كما أنها لا تفسر سبب احتفاظ التاجر بصفته التجارية في حال قام ببيع بضاعته بسعر التكلفة أو بخسارة.
2- نظرية التداول:
يرى أصحاب هذه النظرية أن تحديد الأعمال التجارية يكمن في الوساطة في تداول السلع والنقود والصكوك، أي أن العمل التجاري هو العمل الذي يسعى إلى تسهيل تداول الثروات ابتداء ن خروجها من يدي المنتج وانتهاء بوصولها إلى يدي المستهلك.
ووفقا لهذه النظرية، فإن جميع العمليات التي تقوم على هذه الثروات والسلع منذ استخراجها إلى استقرارها في يد المستهلك تعد أعمالا تجارية، مثل عمليات شراء صاحب المصنع للمواد الخام لتصنيعها، وعمليات نقل هذه المواد، وعمليات بيع الجملة، وعمليات التخزين، وعمليات بيع التجزئة للمستهلك، كما أن السمسرة تعد من الأعمال التجاري.
ووفقا لهذه النظرية فإن العمليات التي تقوم على التعامل مع الثروات من مصدرها الرئيس لا تعد عملا تجاريا، مثل استخراج المعادن، صيد الأسماك والزراعة، وكذلك عملية شراء المستهلك للسلعة لا يعد عملا تجاريا وفق هذه النظرية.
ويؤخذ على هذه النظرية أنها تشمل بعض الأعمال غير التجارية والتي لا يقصد منها التجارة أو الربح، كالجمعيات التعاونية التي تبيع لأعضائها بسعر التكلفة، أو الجمعيات الخيرية التي توزع السلع إلى المستحقين لها؛ فأعمال هذه الجمعيات تعد تجارية وفقا لهذه النظرية.
ثانيا المعايير القانونية:
ذهب الفقه القانوني الحديث إلى تجاهل المعايير الاقتصادية، والبحث عن معايير قانونية يمكن من خلالها الكشف عن الصفة التجارية للأعمال ، وتعتمد المعايير القانونية على نظريتين رئيسيتين، وهما:
نظرية الحرفة:
تعتمد هذه النظرية على جعل الحرفة أساسا قانونيا لتمييز العمل التجاري عن العمل المدني؛ ويعد العمل تجاريا متى ما كان متعلقا بمزاولة حرفة تجارية، ويعد مدنيا متى ما كان غير متعلق بمزاولة حرفة، حتى لو كان من يقوم بن ه تاجرا؛ وعلى ذلك فإنه لا عبرة لشخصية التاجر في هذه النظرية، إنما العبرة في وجود الحرفة من عدمها.
ويعاب على هذه النظرية، صعوبة تطبيقها في أرض الواقع -حاليا-؛ وذلك لأنها تتطلب حصر الحرف التجارية، أو على الأقل وضع ضوابط للتفرقة بين الحرفة التجارية، والأعمال المدنية.
نظرية المقاولة (المشروع):
تقوم هذه النظرية على مبدأ (الحرفة)، ولكنها تضع عنصرا مهما للتفريق بين الحرفة التجارية والأعمال المدنية، وهذا العنصر هو عنصر (المقاولة) أو (المشروع) وهو تكرار العمل وممارسته بشكل معتاد.
ويرى أصحاب هذه النظرية أنه من السهل التعرف على وجود المقاولة؛ وذلك لكونها تتميز بوجود تنظيم سابق ومظاهر خارجية تكشف عنه، مثل وجود المحل التجاري والأدوات والعمال، وغير ذلك.
ولكن يؤخذ على هذه النظرية عدم وضوحها؛ فهي لا تبين ماهي درجة التنظيم التي تجعل العمل تجاريا، كما أنها لا تفسر وجود أعمال منظمة بشكل دقيق جدا، ومع ذلك لا تعتبر أعمالا تجارية كأعمال الزراعة مثلا.
الخلاصة:
وعند النظر في النظريات السابقة نجد بأنه يصعب الاعتماد على نظرية واحدة واتخاذها معيارا لإضفاء الصفة التجارية على الأعمال وهذا هو توجه التنظيمات في أكثر الدول في الوقت الراهن، مع ذلك يرى العديد فقهاء القانون أن نظرية المقاولة يمكن أن تكون معيارا جيدا لتمييز الأعمال التجارية عن الأعمال المدنية متى ما تبنى المنظم مفهوما واضحا للعمل التجاري.
المراجع:
الجبر، محمد (2021) القانون التجاري السعودي . (ط6) . جدة: شركة المعرفة.